الخميس، 14 أغسطس 2008

بدعوى مكافحة الإرهاب.. "راند" توصي باحتلال المجتمعات

خلاف دراسة سابقة لها بعنوان: "ماذا بعد القاعدة 2006" أصدرت مؤسسة راند دراسة جديدة نشرت في 29/7/2008 بعنوان: "كيف تنتهي الجماعات الإرهابية؟ دروس من محاربة القاعدة " للكاتبين سيث جونز ومارتن ليبيكي.

ومن الواضح أن السؤال يحتاج إلى إجابة، لكنه ليس هدفا بحد ذاته، فهو على الأكثر آلية استقراء لاستخراج ما يمكن إسقاطه على واقع بعينه، أو للاسترشاد به في معالجة مشكلة أكثر أهمية وإلحاحا.

وفي ضوء الدراسة يمكن أن يكون السؤال المركزي، بلغة الدراسة، هو التالي: إلى أي مدى يمكن الاستفادة من "نهاية" المجموعات الإرهابية السابقة في القضاء على نموذج القاعدة؟ هكذا بالضبط يمكن التعبير عن جوهر الدراسة والغاية منها، لكن ما هي حقيقة الدراسة وخفاياها؟ هذا ما سنحاول الكشف عنه تاليا.

جوهر الدراسة

المستوى الأول من الدراسة:

1) نهاية المجموعات الإرهابية بحسب معيار الوسيلة المستخدمة:


تقول الدراسة إنها عاينت 648 مجموعة إرهابية تواجدت في الفترة ما بين 1968 - 2008، وفي تحريها عن نهاية هذه المجموعات، التي انتهى بعضها فعليا منذ العام 1968 فيما لا يزال بعضها الآخر عاملا إلى يومنا هذا، تبين لها أن: (43% منها انتهت بفعل اندماجها في العمل السياسي، و10% حققت أهدافها، و7% انتهت باستعمال القوة العسكرية).

2) نهاية المجموعات الإرهابية بحسب معيار الوقت:

لاحظت الدراسة أن:

* 62% من كل المجموعات الإرهابية انتهت منذ العام 1968، مقابل 32% من المجموعات الإرهابية الدينية.

* المجموعات الكبيرة التي تضم أكثر من عشرة آلاف عضو انتصرت في أكثر من 25% من الأوقات، بينما ندر انتصار الجماعات الأقل من ألف عضو.

* في 50% من الوقت انتهت المجموعات بتسوية تفاوضية مع الحكومة، و25% من الوقت حققت المجموعات الإرهابية النصر، و19% من الوقت حققت القوات العسكرية النصر عليها وأنهتها.

3) ميزات الوسائل المستخدمة في مواجهة الجماعات الإرهابية:

* أجهزة الأمن والشرطة:

ترى الدراسة أن الأعمال الشرطية والمخابراتية أظهرت أنها الإستراتيجية الأكثر نجاحا بخصوص المجموعات الإرهابية التي لا تستطيع أو لن تستطيع التحول إلى عدم العنف، وأن نسبة النجاح بلغت 40%، فالشرطة والخدمات الاستخباراتية لديها تدريب ومعلومات أكثر؛ لاختراق وإفساد المنظمات الإرهابية أفضل من المؤسسات الأخرى كالمؤسسة العسكرية، ولديها تواجد دائم في المدن والحواضر والقرى، وفهم أفضل للبيئة التي ينبع منها الخطر في هذه المناطق، وكذلك قدرة أعلى في فهم الناس هناك والتعامل معهم.

* القوات العسكرية:

جماعات التمرد العسكري كانت من أكثر المجموعات الإرهابية قدرة وفتكا، والقوات المسلحة كانت في العادة ضرورة في مثل هذه الحالات؛ لكن استخدام القوات المسلحة ضد أغلب المجموعات الإرهابية يعد الوسيلة الأكثر فظاظة.

المستوى الثاني من الدراسة:

1) عودة القاعدة:

اعتمادا على ما سبق في المستوى الأول، تنطلق الدراسة مما تعتبره دلائل تظهر أن الإستراتيجية الأمريكية بعد هجمات 11 سبتمبر 2001 لم تكن ناجحة في تقويض وهدم قدرات القاعدة التي ما زالت منظمة وقوية ومتماسكة، وأن أهدافها بقيت كما هي.

فالقاعدة قامت بنشاطات إرهابية منذ 11 سبتمبر أكثر من كل ما قامت به في تاريخها السابق، وهذه الهجمات شملت أوروبا وآسيا والشرق الأوسط وإفريقيا، بل إن الطابع الإجرامي للقاعدة تطور وضم واستخدم ذخيرة مطورة من العبوات المتفجرة، ونمّى استخدام التفجيرات الانتحارية، وكذلك تطور الهيكل التنظيمي للقاعدة؛ مما يجعلها عدوا أكثر خطورة من قبل.

2) تغيير إستراتيجي:

وعليه ترى الدراسة أن عودة القاعدة يجب أن تطلق إعادة تفكير مبدئي، أو أساسي في الإستراتيجية الأمريكية المضادة للإرهاب، على أن يفهم صناع السياسات أين يعطون الأولوية لجهودهم، وكنتيجة لما تضمنه المستوى الأول، فإن الحل السياسي مع القاعدة غير ممكن، لاسيما أن التحليلات الواردة فيه أظهرت أنه لا يوجد حل عسكري للإرهاب؛ لذا فإن المنهج الأكثر فعالية هو تبني إستراتيجية من جبهتين أو من شقين:

أولا: الجهود الشرطية والمخابراتية يجب أن تكون هي العمود الفقري للجهود الأمريكية في أوروبا وأمريكا الشمالية، وشمال إفريقيا وآسيا، والشرق الأوسط.

ثانيا: القوة العسكرية، وليس بالضرورة الجنود الأمريكيون، فقد تكون أداة ضرورية في حال انخراط القاعدة في تمرد مسلح، فالقوات العسكرية المحلية (الجيوش المحلية) كثيرا ما تكون لديها شرعية أكبر للعمليات من الولايات المتحدة، كما أن لديها فهما أفضل لبيئة العمليات، وهذا يعني أنه يجب ألا يظهر سوى أثر طفيف جدا، أو حتى لا أثر على الإطلاق للقوات العسكرية الأمريكية.

3) المفاتيح الفعالة:

في التفاصيل تلح الدراسة على ما تعتبره مفتاحا فعالا لهذه الإستراتيجية الجديدة يقضي بالتوقف نهائيا عن استخدام تعبير "الحرب على الإرهاب"، واستبداله بتعبير ومبدأ مثل "مكافحة الإرهاب"، مثلما فعلت من قبل الحكومة البريطانية وآخرون غيرها؛ لأن التعبير يجعل الجماهير، سواء في الولايات المتحدة أو في غيرها يتوقعون وجود حل لمشكلة الإرهاب في ساحة الحرب الميدانية، ويدفع الآخرين خارج الحدود إلى إعلان الجهاد ضد الولايات المتحدة، ويرفع مكانتهم، في حين يجب أن يُنظر إلى الإرهابيين، ويوصفوا كمجرمين لا كمحاربين مقدسين.

كما أن الإستراتيجية الجديدة تشمل عدم السماح بجر القوات العسكرية إلى معارك مباشرة؛ لأنها تحقق عكس الهدف الذي ترمي إليه، فهي في العادة تُستخدم بكثافة، وتنفر العامة من طبيعتها ذات اليد الثقيلة.

أما القوات الخاصة الأمريكية فسوف تبقى مهمة جدا، كما هي العمليات العسكرية، ويجب أن تشمل هذه الإستراتيجية الجديدة -أيضا- إعادة توزيع المصادر والاهتمامات الأمريكية على العمل الشرطي والاستخباراتي، وهي تعني أيضا زيادة الميزانيات.

4) سبب للتفاؤل:

تختم الدراسة بقدر لا بأس به من التفاؤل؛ إذ إن فرص نجاح القاعدة في الإطاحة بأية حكومة قريبة من الصفر، فضلا عن أن القاعدة لديها أهداف غير قابلة للتحقيق عمليا في محاولتها لإزالة أنظمة حكم عديدة في الشرق الأوسط.

كما أن التأييد الشعبي الذي تحظى به القاعدة في غالبية العالم الإسلامي لا يتحول إلى تأييد ضخم، كما هو الحال بالنسبة لحزب الله في لبنان، وزيادة على ذلك فالقاعدة مستمرة في توسيع قائمة أعدائها، وصنع عالم من الأعداء، مع امتلاك أهداف غير قابلة للتحقيق، وليس بإستراتيجية انتصار.

خفايا الدراسة ومخاطرها

لا شك أن المطلع على منهجية العلوم الاجتماعية الأمريكية يدرك أنه بصدد بحث إمبريقي (تجريبي) بامتياز، بمعنى أن أصحاب الدراسة تعمدوا النأي بأنفسهم عن الذاتية في الإجابة على السؤال: "كيف تنتهي الجماعات الإرهابية؟" تاركين لنهايات التجارب التاريخية الكلمة الفصل في التوصيات.

وهكذا تبدو الدراسة متمتعة بقدر كبير من المصداقية والحيادية، وبما أن: الأرقام هي من يتحدث بلا مواربة، وهي صاحبة السلطان في صياغة التوصيات الملائمة، وليس التحليلات أو التنبؤات التي قد تصيب أو تخطئ..

لكن إلى أي مدى تبدو الدراسة محايدة فعلا؟ وما قيمة توصياتها، وأثرها على الدول والمجتمعات المستهدفة؟

الديمقراطيون أو تواطؤ "راند"

إننا نطرح السؤال؛ لكون المؤسسة التي أنجزت الدراسة، واختارت مسبقا المنهج الإمبريقي انطلقت في التحليل -على ما يبدو- من فرضية لديها ترقى إلى مستوى الإثبات، حتى قبل أن يجري فحصها منهجيا في ضوء تجارب الجماعات المسلحة.

وهذه الفرضية (المسلمة) تقول بأن القاعدة ما زالت منظمة قوية ومتماسكة، ولا حل عسكري لها في الميدان! ولا شك أن هذه ليست نتيجة بقدر ما هي حقيقة تعترف بها المؤسسة مسبقا.

بطبيعة الحال سيلاحظ القارئ -بداية أو نهاية- أن الدراسة تتحدث عن فشل إستراتيجي أمريكي في التعامل مع القاعدة بعد هجمات 11 سبتمبر، وهذه مسألة تعتبر بالنسبة للدراسة "دلائل" لا تحتاج إلى إثباتات.. فما الذي أرادت الدراسة -إذن- إثباته أو نفيه؟ وبماذا سيفيدها الرجوع إلى تاريخ الجماعات المسلحة؟ هل تريد التفتيش عن آليات جديدة للقضاء على القاعدة، باعتبار أن الآليات المعمول بها منذ 11 سبتمبر آلت إلى الفشل؟ أم تريد إثبات فشل السياسات الأمريكية في التعامل مع القاعدة في ضوء التجارب السابقة للجماعات المسلحة؟ وهل استعملت المنهج الإمبريقي لإثبات صحة توجهاتها؟ أم لخدمة توجهات أطراف أخرى؟ باختصار: ما هي خلفيات الدراسة؟

بما أننا لا نمتلك أية معلومات صريحة حول الجهة التي تقف خلف الدراسة فسنلجأ إلى مقاربة المضمون مع كل من سياسات الحزبين الأمريكيين الجمهوري والديمقراطي، إذ لكل منهما إستراتيجياته التقليدية التي تميزه تاريخيا فيما يتعلق بشعار "أمريكا قوية دائما".

المقاربة الأولى:

في خضم العام الجاري ثارت في الولايات المتحدة الأمريكية عاصفة من النقاشات حول مصير القاعدة انقسم فيها الرأي إلى قسمين:

أحدهما: يقول بأن القاعدة هزمت.

والثاني: يرى خلاف ذلك! وإذا قلنا إن المفكرين الأمريكيين أنفسهم يختلفون حول الموقف من القاعدة، فإن ما جاءت به "راند" ليس سوى تغليب رأي على آخر، حتى لو اتخذ طابعا علميا، إذ لا يعقل أن تتحول القاعدة بين ليلة وضحاها إلى تنظيم مهزوم أو منتصر بفعل ما يشبه الجدالات العقيمة التي لم يفلت منها إلا مؤسسة راند!

فالثابت أن الدراسة صدرت على مقربة من انتخابات أمريكية، ذات مواصفات مميزة عن سابقاتها، سواء لجهة المرشحين والأصول الإفريقية لأحدهما، أو لجهة تقييم حالة الاتحاد الأمريكي بعد حربين دمويتين، أو لجهة أزمة اقتصاد عالمية خانقة غير مسبوقة بهذه الشراسة، وهي تطحن كافة التشكيلات الاجتماعية، وتنذر بفوضى عالمية.

أما خلاصة ما تدعو إليه الدراسة فيقضي بتقديم متغير الأمن على ما عداه من متغيرات أخرى، ولو عاينا أطروحات الحزبين سيتبين لنا أن سياسات الحزب الديمقراطي تتسم بالتركيز على الأمن والاقتصاد والمال، بينما سياسات الحزب الجمهوري انحازت تاريخيا إلى السياسة الخارجية، وشن الحروب، ودعم كارتيلات التصنيع العسكري، والتكنولوجيا الحربية.

ومن الواضح والجلي أن الدراسة -بتغليبها متغير الأمن كأساس لإستراتيجية جديدة- تميل إلى التماهي الصريح مع الديمقراطيين، وهذا يدفعنا إلى التساؤل بجدية: هل أعدت الدراسة بناء على طلب من الحزب الديمقراطي أو إحدى وكالاته؟

الحقيقة أنه ما من شيء يثبت خلاف ذلك، بل إن المؤشرات التي تدعم هذا الاعتقاد كثيرة جدا، فالدراسة تؤشر على أن الديمقراطيين يستعدون لتولي السلطة فعليا، وأنهم عازمون على استخدام أقصى طاقاتهم في الوصول إلى البيت الأبيض عبر الكشف المبكر عن إستراتيجياتهم المتوافقة، مع كونهم أسياد الأمن القومي الأمريكي تاريخيا، وسوف تمكنهم دراسة كتلك من الضغط على الجمهوريين واستمالة الناخبين الأمريكيين للبرنامج الديمقراطي الذي سيعيد لهم أبناءهم من ساحات القتال أحياء بدلا من الأكياس السوداء، وسيكون بمقدور الديمقراطيين مخاطبة الشعب الأمريكي بكل ثقة واطمئنان، ولسان حالهم يقول: إنكم وثقتم بدراسات "راند" التي نجحت في اختراق الساحة العراقية؛ وها هي "راند" ذاتها توصي بأن يتقدم "الأمن" على "القوة العسكرية"، فما من عذر لإضاعة الفرصة؛ لذا عليكم أن تختاروا بين الأمن لأمريكا، ولكم ولأبنائكم، أو انتظار المزيد من الجثث.

إذن الاعتقاد بوقوف الديمقراطيين خلف الدراسة أو بتواطؤ "راند" مع الديمقراطيين أمر وارد فيما يتعلق بالصراع على السلطة.. لكن هناك ما هو أكثر من مبرر الانتخابات القادمة، ونقصد بذلك افتراق الحزبين في توجهاتهما السياسية وإستراتيجياتهما، وفي السياق ظهر معطى لا نحسب أنه مفاجئ بقدر ما هو مدروس بدقة في المضمون وفي توقيت ظهوره.

المقاربة الثانية:

ففي 1/8/2008، وبعد يومين من دراسة "راند" بالضبط، صدر تقرير حاسم عن وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون) بعنوان: "إستراتيجية الدفاع الوطني"، وظهر التقرير كما لو أنه رد عاجل على دراسة "راند" المحرجة للجمهوريين، وإذا كانت الدراسة قد استرشدت بتجارب أربعين سنة مضت فالتقرير، كما أوضح وزير الدفاع روبرت جيتس، جاء كـ: "محاولة لتطبيق الدروس المستخلصة من الحربين اللتين تخوضهما قواته في العراق وأفغانستان"، وهذه إشارة إلى أن الجمهوريين لم يكونوا نياما خلال فترة حكمهم، فلديهم أيضا دراساتهم وتقييماتهم.

فالتقرير يخلص إلى الإعلان عن: "إستراتيجية عسكرية جديدة" تضع "الحرب الطويلة" ضد تنظيم القاعدة في طليعة أولوياتها في المرحلة المقبلة، بل متقدمة على مخاطر "حرب تقليدية" مع الصين أو روسيا اللتين يتجه التقرير إلى تحييدهما في المرحلة المقبلة، وبناء "علاقات شراكة وتعاون معهما بدلا من اعتبارهما عدوا"، ودعا التقرير: "إلى التعاون مع الدول الحليفة والشريكة من أجل المساعدة على تقليص المناطق الخارجة عن السيطرة في العالم"، وبالتالي "حرمان المتطرفين من معاقلهم".

وأكثر من ذلك فقد أفاد التقرير: "إن الانتصار في الحرب الطويلة ضد الحركات المتطرفة والعنيفة سيشكل في المستقبل المنظور والهدف المحوري للولايات المتحدة"، واعتبر أن "البيئة الإستراتيجية" التي تواجهها الولايات المتحدة في المستقبل المنظور "ستحددها مكافحة شاملة لأيديولوجيا متطرفة وعنيفة تسعى لقلب النظام العالمي".

ومن الواضح أن التقرير بني على إستراتيجية القوة العسكرية، ولم يحد قيد أنملة عن إستراتيجيات الجمهوريين المعتادة، بعكس الدراسة التي بنيت على إستراتيجية القوة الأمنية، وبهذا المعنى يسهل الاستنتاج أن الدراسة ذات دوافع سياسية بحتة، أكثر منها إستراتيجيات جديدة.

فالجمهوريون -والذي يبدو أن الدراسة أغاظتهم حتى نخرت عظامهم- عجلوا بصدور تقريرهم للتأكيد على إستراتيجياتهم التقليدية، ذات النزعة العسكرية التي لا تقل تطرفا عن المطحنة الأمنية لدى الديمقراطيين.

ومع ذلك لدينا ما يكفي من المؤشرات للاعتقاد بأن الدراسة لن تؤثر كثيرا في مجرى الانتخابات الأمريكية، لاسيما أن الجمهوريين لم يفرطوا في الأمن، ولا في أدواته فيما يخص حربهم على الإرهاب طوال فترة حكمهم، إذ إن تصريح الرئيس الأمريكي بعد هجمات 11 سبتمبر (إما معنا أو ضدنا) لم يكن ليستثني أية آلية عمل ممكنة، كالتي ذكرتها "راند" في دراستها مثل: "أعمال بوليسية مخابراتية دقيقة وحريصة، قوة عسكرية (حربية)، مفاوضات سياسية، عقوبات وتضييقات اقتصادية"، ولا التعميمات الأمنية ذات الطابع العالمي، أو التدخلات الحثيثة، أو الاغتيالات الموجهة عن بعد، أو افتتاح مكاتب للسي آي إيه، أو الـ"إف بي آي" في بلدان عربية وإسلامية تقع خارج السياق بما في ذلك دراسات راند السابقة حول احتواء الجماعات الإسلامية، سواء في العراق أو خارجه، ولعل الاجتماع الشهير لوزيرة الخارجية الأمريكية كوندوليزا رايس مع رؤساء أربع أجهزة مخابرات عربية يقع في الصميم من الفعل الأمني المكثف الذي انتهجه الجمهوريون.. فعلامَ يزايد الديمقراطيون -إذن- على الجمهوريين في المسائل الأمنية؟

إستراتيجية الاحتلال الاجتماعي

ومع ذلك فليس من الموضوعية التعامل مع الدراسة عبر حشرها في زاوية سياسية وإسقاط مضامينها من أية حسابات، حتى لو أنجزت لصالح طرف معين، أو بناء على تواطؤ أو أجندة سياسية، إذ تبقى "راند" واحدة من أهم مؤسسات البحث العلمي المؤثرة في القرار السياسي وحتى في الرأي العام؛ لذا فإن تقصي مفاعيل الدراسة في المدى المنظور ممكن من زاوية المعطى الأهم فيها، خاصة ذاك الذي يتحدث من جهة عن: "إعادة ترتيب للأولويات"، ومن جهة أخرى عن: "المفاتيح الفعالة" في الإستراتيجية الجديدة.

وهذا يعني أن الفشل الإستراتيجي منذ سبتمبر ليس ناجما عن استعمال القوة العسكرية بحد ذاتها، بقدر ما هو نتاج خطأ في ترتيب الأولويات التي أدت إلى تقدم خيار على آخر دون حساب لمستوى الفعالية.

هنا بالضبط يقع الجديد في الدراسة، وهو ما تريد "راند" قوله في الصميم رغم أنه لم يتم اختباره بعد، إذ إن تَقدُّم الخيار الأمني على الخيار العسكري هو أمر جديد تماما، خاصة أن الديمقراطيين لم يجربوا حظهم في الحرب على الإرهاب منذ وقوع هجمات 11 سبتمبر، فقد خضعوا، كغيرهم من القوى، لسياسة التخويف الجمهورية التي ألجمت الجميع، وحبست الأنفاس؛ ولأنه جديد فما من معطيات قابلة للاستقراء والتحليل.

وهذا مؤشر على أن الخيار برمته هو افتراض يحتاج إلى المزيد من الاختبار والتحقق، وليس بالضرورة أن يكون صحيحا بناء على تحليلات كمية تاريخية، بل إن المزج بين المسألة الأمنية والمفاتيح الفعالة ليس جديدا إلا إذا اعتمد كأولوية إستراتيجية كما تطرح الدراسة، وحينها فقط علينا أن نتوقع مولد كارثة ستحل بمناطق التدخل الأمريكي.

فالمتمعن في الدراسة سيخرج بانطباع متين أن حربا ضروسا من نوع مختلف قادمة ولا شك، وأيا كانت المبررات والحيثيات فالأكيد أنها حرب مقلقة على كل صعيد، وبما أنها ستستهدف الفرد والمجتمع والدولة التي ستتعرض إلى ضغوط مكثفة فستقلص من هوامش حراكها الداخلي، بحيث تشعر أنها باتت مهددة كلما غدت مؤسساتها مستباحة للإستراتيجيات الأمريكية، وهوى صناع القرار في البيت الأبيض.

فالجيوش وأجهزة الأمن والشرطة ستنتقل من حالة التعاون بين الدول، في أحسن الأحوال، إلى مجرد أدوات تنفيذية للسياسات الأمريكية، وإذا ما نفذت الإستراتيجية الجديدة بهذه الطريقة -وهي واقعة جزئيا على كل حال- فستمارس الولايات المتحدة نوعا جديدا من السيطرة والاستعمار لم تشهده البشرية من قبل. لأننا سنكون على موعد ما يمكن تسميته بـ: "الاحتلال الاجتماعي".

في الاستعمار التقليدي عايشت الشعوب الضعيفة تدخلا عسكريا عنيفا انتهى بالسيطرة على بقعة جغرافية معينة والتحكم في مصيرها، وفيما عدا حاشية المستعمر المحلية المنتفعة من الاحتلال السياسي، والتي لا تزيد نسبتها، في العادة، عن 6% من عدد السكان اختارت الغالبية العامة من السكان مقاومة القوة الغازية بشتى الوسائل المتاحة.

وفيما عدا حالات معينة فقد انتهت الحركة الاستعمارية بالانسحاب المباشر عن الأرض والشعب، لكن الحركة الاستعمارية الجديدة التي دشنتها وتقودها الولايات المتحدة الأمريكية أظهرت ملامح احتلال تستهدف المجتمع بالذات، ناهيك عن الدولة.

والطريف في الأمر أن قسما من السكان والقوى السياسية هو من هيأ لنجاح هذا النوع من الاحتلال، إما عبر الترحيب به، أو بالتحالف معه، أو بالتملق إليه والقبول به، والترويج لسياساته وإستراتيجياته، بل الأسوأ أن القوى المحلية غدت تتصارع فيما بينها على خدمة القوى الأجنبية والتقرب منها، وحتى الاتصال بها باعتبار أنها جزء من الحل، وليست المشكلة.

ومثل هذه الحالة ظهرت في فلسطين ولبنان نسبيا، لكنها ظهرت في العراق بأوضح صورها، سواء في صفوف الطوائف كالشيعة أو السنة، أو في صفوف القوميات كالأكراد والعرب.

وهذا يعني أنه ما من تشكيل اجتماعي أو سياسي، أو اقتصادي أو ثقافي، أو أمني أو عسكري، أو مذهبي أو... بمنأى عن التعرض لاحتلال يمس الفرد والجماعة، والطائفة والقبيلة، والعائلة، والمؤسسة والحزب... إلخ.

هذا النموذج من الاحتلال هو الذي تسعى الإستراتيجية الجديدة إلى تعميمه عبر ما يسمى بالمفاتيح الفعالة لـ "تقليص" ما يراه حتى الجمهوريون بـ"المناطق الخارجة عن السيطرة في العالم".

ولا شك أنه النموذج الأخطر على مصير الأمم، والأربح بالنسبة للأمريكيين، خاصة أنه سيمكنهم من دفع التكاليف من جيوب الناس ودمائهم، وأوطانهم وعقيدتهم، وتاريخهم ونسيجهم دون أن يخسروا الكثير.

بل إن الإستراتيجية الجديدة تحرص على عدم السماح للقوات العسكرية بالانجرار إلى قتال مباشر، وعلى إخفاء مظاهر القوة الأجنبية عن أعين المجتمع المحلي؛ كي لا تتسبب بأية استفزازات لها قد تدفعها إلى التمرد والمقاومة، وعلى استغلال كافة الطاقات المحلية؛ لتحقيق الأغراض الأمريكية من وراء ستار.

ولا ريب أن الدراسة في ترويجها لهذا النوع من الاحتلال تستفز المراقب حقا، خاصة أنها -وللأسف- تتعامل مع المجتمعات المستهدفة كمجتمعات بدائية تسكنها شعوب مغفلة؛ ولهذا تراها تسهب فيما توصي به دون أن تحسب حسابا لأية ردود أفعال.

أخيرا، وبحسب الدراسة، يبدو أن الأمريكيين مدركون لأولوياتهم، أو أن عليهم أن يدركوها، بينما نحن، في أحسن الأحوال، جزء منها.

كما أن الأمريكيين متفائلون في القضاء على القاعدة لأكثر من سبب، وفي المقابل كان لدينا ولا يزال ألف سبب وسبب للتشاؤم من القادم.

في الوقت الحاضر فإن أغلب التشكيلات الاجتماعية ليست صديقة للولايات المتحدة، لكن إستراتيجية الاحتلال الاجتماعي القائم على الاستيطان الأمني الواسع النطاق ستؤدي قطعا، في وقت من الأوقات، إلى انقسامات اجتماعية شديدة الخطورة، كما أنها إستراتيجيا تنذر بانخفاض حاد جدا في سقف الحريات والشعور بالأمان الفردي والاجتماعي، رغم أنها تتحدث عن "عمليات دقيقة".

ويبقى السؤال الجوهري الذي يحتاج إلى إجابة صريحة هو:

هل ثمة من يعتقد أن المجتمعات العربية والإسلامية محصنة تجاه احتلال من هذا النوع؟

سؤال للبحث.. لابد أن يتطوع أحد للإجابة عليه بدون تحيز أو مكابرة، وإلا فلنستعد لاستشارة أحد فروع "راند" المحلية قريبا!!

د.اكرم حجازي

ليست هناك تعليقات: