الجمعة، 26 سبتمبر 2008

هل وجد لافروف نفسه في عزلة؟

بقلم: المعلق السياسي لوكالة "نوفوستي" دميتري كوسيريف

لم يخطر ببال وزيرة الخارجية الأمريكية كوندوليزا رايس، على الأرجح، حين هددت بعزل روسيا "جزاء لحربها ضد جورجيا" أثناء كلمة ألقتها مؤخرا في مؤسسة مارشال في واشنطن، أن منظمة لا تقل هيبة هي مجلس العلاقات الدولية في نيويورك سوف تستقبل عما قريب زميلها الروسي سيرغي لافروف الذي سيواجه أثناء المداولات فيها نفس السؤال المتعلق بالعزلة.

ولم يدر في خلدها آنذاك، طبعا، أن لافروف سيتأخر عن بداية اللقاء في المجلس بسبب اجتماعه المطول معها الذي سيتفقان فيه على ضرورة ألا تصبح "المسألة الجورجية" محورا تدور حوله كل العلاقات الروسية - الأمريكية، وسيبحثان فيه أيضا القضايا ذات الاهتمام المشترك كمسألتي البرنامجين النوويين الكوري الشمالي والإيراني.

وفي رده في مجلس العلاقات الدولية على سؤال حول العزلة أشار لافروف الى أنه لم يتلق مثل هذا العدد من طلبات اللقاء معه في أي من دورات الجمعية العامة السابقة. علما أن قائمة القضايا التي يراد من روسيا إبداء الرأي فيها تتسع باستمرار، وأن معظم هذه القضايا لا يمت بصلة إلى جورجيا.

وطبقا لجدول أعماله المقرر ينبغي على لافروف "المعزول" أن يلتقي بـ97 رئيس دولة ووزير خارجية - أي بممثلين عن نصف دول العالم. ومما لا شك فيه أنه ليس في وسع أحد إجراء كل هذه اللقاءات على مستوى ثنائي في فترة محدودة، ولهذا فقد كانت بعض تلك اللقاءات التي أجراها لافروف متعددة الجوانب، ومنها، مثلا، اجتماع روسيا - الاتحاد الأوروبي حيث التقى الوزير الروسي في آن واحد بـ27 وزيرا أوروبيا. وعلى أي حال أصبح جدول أعمال لافروف الحالي في نيويورك أكثر جداوله ازدحاما خلال تاريخ عمله في الأمم المتحدة.

ولم يتضرر من "الغضب الأمريكي" الى حد الآن سوى الاجتماع التقليدي لوزراء خارجية "الثمانية الكبار" واجتماع "السداسي" المعني بإيران. وتفسر وزارة الخارجية الأمريكية فشل كلا الاجتماعين بأحداث جورجيا. ولكن هذا التفسير يعني الرأي العام الأمريكي في حين يعرف الخبراء أن السبب الرئيسي لإلغاء الاجتماع الخاص بإيران يرجع إلى تصريح بكين الأخير بان عقوبات إضافية لن تفرض على طهران. وكررت روسيا هذا البيان في فترة لاحقة مضيفة أن كل شيء يسير في مجراه الطبيعي، وأن الوكالة الدولية للطاقة الذرية تؤكد أنها لا تملك أي معطيات تشير إلى وجود بعد عسكري للبرامج النووية الإيرانية.

فما الداعي للحديث عن عقوبات جديدة؟ وطالما لم تقدم الولايات المتحدة أي بديل سلمي للسياسة من مواقع القوة، أقر الجميع بأنهم في غنى عن الاجتماع الوزاري للسداسي في الوقت الراهن.

وعلى أي حال لا تتركز المناقشة السياسية العامة في الدورة الحالية على جورجيا. فالأمر، في الحقيقة، أكثر خطورة. وعلى وجه العموم يترك ما يحدث في نيويورك في هذه الأيام انطباعا غير مألوف.

وعادة ما يستطيع المرء أن يتصور على ضوء المناقشة السياسية العامة التي تجري في سبتمبر بشكل دوري في الأمم المتحدة كيفية تطور السياسة العالمية خلال العام القادم. والتصور الذي ينشأ في العام الجاري يختلف عن التصورات السابقة كل الاختلاف.

لقد كان مركز الثقل في السياسة العالمية حتى الآن يتمثل في ضغط أمريكا على هذه الدولة أو تلك، وبقدر متباين من النجاح، على خلفية الزيادة الهادئة والمطردة لنفوذ الصين التي سجلت باستمرار نقاطا رابحة في ضوء الخسائر الأمريكية المتزايدة. أما اليوم فلا يسمع صوت الصين ولا يُحس بوجودها على الإطلاق. أما الولايات المتحدة فانها تتحدث أيضا بصوت خافت. بل يتولد أحيانا انطباع وكأن الولايات المتحدة وجدت نفسها في عزلة وليس بسبب جورجيا أبدا.

نشرت صحفية "نيويورك تايمز" يوم الأربعاء الماضي تحليلا لما يجري هناك، وخلصت إلى نتيجة مفادها أن الولايات المتحدة تتعرض أكثر من غيرها للانتقاد في هيئة الأمم المتحدة، وذلك نظرا لاستياء العالم من الأساليب التي تتبناها واشنطن في مكافحة الأزمة المالية. وانضمت مستشارة ألمانيا انجيلا ميركل إلى جوقة منتقدي الولايات المتحدة (لم تأت الى نيويورك في هذا العام) بإشارتها إلى أن ستة من أعضاء مجموعة "الثمانية الكبار" دعوا الولايات المتحدة وبريطانيا لتشديد القبضة على قطاعيهما الماليين، ولكنهما أجابتا أن هذا يخالف تقاليدهما. والنتيجة هي أن العالم بأسره يترنح اليوم على حافة "الكساد العظيم" مرة أخرى.

وينظر الجزء الأكبر من العالم (أي الجزء الذي لا ينضم إلى نادي "الثمانية") إلى كل هذه الأمور نظرة خاصة. وتتذكر تلك الدول كيف كانت الولايات المتحدة تطالبها بتجنب التدخل في الشؤون الاقتصادية والمالية وعدم إنقاذ بنوكها من الإفلاس. وها هي الولايات المتحدة تعد الآن بإنفاق 700 مليار دولار من أجل إنقاذ الشركات المالية التي تجاوزت الحدود المعقولة في مغامرتها ومقامرتها في بورصات وول ستريت. ويجري ذلك في الوقت الذي تحلم فيه عشرات بلدان العالم في واحد بالمائة من هذا المبلغ من أجل مكافحة الأمية أو الأمراض ناهيك عن ارتفاع أسعار المواد الغذائية.

خلاصة القول: بينت إدارة بوش محدودية قدراتها العسكرية (في العراق وإيران) وحان الوقت الآن لزوال النفوذ المالي الأمريكي.

وفي الوقت نفسه نشهد لأول مرة خلال سنوات طويلة استيقاظ أوروبا بما في ذلك نتيجة للحرب في جورجيا. فقد أدى رد الفعل السريع للزعيم الفرنسي رئيس الاتحاد الأوروبي الحالي نيكولا ساركوزي الذي أخذ على عاتقه المساعي الحميدة الرامية إلى إحلال السلام في المنطقة، إلى تولي الاتحاد الأوروبي دورا أساسيا في النشاط الدبلوماسي المتعلق بالنزاع. أما الولايات المتحدة فقد انحازت عمليا إلى جانب أحد أطرافه علما أنه الطرف الخاسر. وهو وضع جديد (وسار) بالنسبة لأوروبا التي ضاقت ذرعا بسياسة جورج بوش.

وبرز فجأة في كل هذه القضايا بما فيها الأزمة المالية دور روسيا. ففي لقاء روسيا - الاتحاد الأوروبي المذكور، مثلا، تخطى الحديث موضوعي الشرق الأوسط وجورجيا الأساسيين، وشمل عددا من القضايا الأخرى التي تلعب روسيا فيها دورا مهما (كالقضية الإيرانية وغيرها).

هذا وأبدى الاتحاد الأوروبي بصورة غير متوقعة اهتماما بمبادرة طرحها الرئيس الروسي دميتري ميدفيديف في يونيو الماضي بشأن عقد معاهدة جديدة للأمن الأوروبي، خاصة وأن موسكو امتنعت عمدا عن تقديم النص الجاهز لمشروع المعاهدة بل تركت للأوروبيين شرف النهوض بهذه المهمة.

ويستطيع المرء، طبعا، أن يطرح سؤالا مزعجا: لماذا تطلب الأمر نشوب حرب في جورجيا لكي تصغي أوروبا إلى روسيا؟ أفلم يكن بالإمكان تجنب مثل هذا التطور؟ ولكن قاموس الدبلوماسيين في الأمم المتحدة لا يحتوي على مثل هذه العبارات.

ليست هناك تعليقات: