الأربعاء، 8 أكتوبر 2008

فاقم الأزمة المالية .. أين الحل؟








سعود بن هاشم جليدان - متخصص في الدراسات الاقتصادية 08/10/1429هـ
jleadans@gmail.com


تعود جذور تفاقم الأزمة المالية الحالية في أمريكا إلى سياسات تحرير الأنظمة البنكية وخفض معدلات الفائدة، والتي قام بها مجلس الاحتياطي الفيدرالي بقيادة رئيسه السابق ألن جرينسباد بعد تهاوي أسعار أسهم التقنية. وقد شجعت مستويات الفائدة الحقيقية المنخفضة والسلبية أحياناً على انخفاض تكاليف الإقراض وساهمت بشكل كبير في تكون فقاعة العقار في الولايات المتحدة في بداية الألفية. كما مكن تحرير الأنظمة المالية المصارف من إيجاد منتجات جديدة من خلال ما يسمى بالهندسة المالية. وأدت تلك الأدوات إلى رفع مستويات مخاطر الإقراض ورفعت من حجم المخاطر مقارنةً بمستويات الإيداع ورأس المال.
وشجع ارتفاع مستويات السيولة والجشع كثيرا من المؤسسات المالية على تقديمها قروضا عقارية لمنخفضي الملاءة المالية، والتي أغرتهم بقروض عقارية بدفعات أولى مخفضة (وأحياناً من دون مقدم أو دفعة أولى) ولكن بنسب فوائد مرتفعة على الأمد الطويل. ويوجه كثير من المراقبين تهما إلى بعض مؤسسات الإقراض المالية وسماسرة العقار بالتغرير بكثير من أصحاب القروض العقارية القديمة منخفضة الفائدة واستبدالها بقروض عقارية مرتفعة الفائدة (وذلك عن طريق تقديم بعض المبالغ النقدية مقابل حقوق ملكيتهم في مساكنهم وإعادة ترتيب قروض عقارية بفوائد مرتفعة على الأمد الطويل). ولتشجيع وتمكين هؤلاء المقترضين من الاقتراض خفضت المصارف أحجام الأقساط الشهرية في بداية التمويل وبشكل يتناسب مع دخول المقترضين. وتم ذلك عن طريق استخدام معدلات فائدة مرنة بحيث تكون هذه المعدلات منخفضة في بداية فترة سداد القرض ثم ترتفع مع معدلات الفائدة السائدة مع مرور الوقت. وكانت هذه الممارسات مبنية على فرضية استمرار ارتفاع أسعار العقارات وهي فرضية مقبولة في كثير من الأحيان ولدى معظم الناس وخصوصاً في أزمنة الازدهار الاقتصادي. ولو صحت هذه الفرضية لما شهدت الأسواق المالية الانتكاسات التي تشهدها في الوقت الحالي. ويبدو أن معظم الناس في أوقات الطفرات الاقتصادية والفقاعات (بما في ذلك كثير من الخبراء والمؤسسات المالية) يتغاضون أو على الأصح يتناسون الحقائق الاقتصادية التي لا تضمن استمرار ارتفاع أسعار الأصول.
ولم يقتصر الأمر فقط على منح قروض لذوي الملاءات المالية المنخفضة، بل عمدت العديد من المصارف إلى إنشاء مؤسسات شبه وهمية قامت من خلالها بتوريق هذه الديون وإصدار سندات مقابلها وبيعها لأطراف أخرى للتخلص من مخاطر الائتمان المرتبطة بها. ولرفع درجات تصنيف هذه السندات تم شراء تأمين لبعضها لرفع درجات تصنيف هذه السندات. ومن ثم بيعت هذه السندات إلى مستثمرين ذوي ملاءة جيدة وأحياناً بتوصية من المصارف المالكة للشركات الوهمية. وقام الكثير من هؤلاء المستثمرين ببيع هذه السندات أو قدموها كرهون للحصول على قروض أخرى. وهكذا استمرت هذه الدورة وانتشرت بين مصارف العالم. وضخم الإقراض غير المسؤول من فقاعة العقارات في الولايات المتحدة وارتفعت أسعار العقارات لعدة سنوات ما سمح باستمرار الممارسات غير المسؤولة لعدة سنوات وضخم من حجمها. وبعد وصول أسعار العقارات إلى قمتها بدأت تتراجع مع حلول عام 2007م، وارتفعت حالات العجز عن سداد القروض العقارية وتمادت المصارف في إجراءات الحجز على المنازل المرهونة. وأدى استمرار وارتفاع عدد المنازل المعروضة للبيع إلى الضغط على أسعار العقارات ما خفضها بحدة وأدى إلى تفاقم معضلة الرهون العقارية. وتخلى كثير من المقترضين عن منازلهم بسبب عجزهم عن سداد أقساط. وتدنت حقوق ملكية آخرين من ملاك المنازل إلى مستويات منخفضة ووصلت في كثير من الأحيان إلى مستويات سلبية (وهو ما يعني أن القيمة السوقية للمنزل أقل من قيمة القرض الحالية). وبينما أجبر العديد من سكان المنازل على ترك منازلهم للمصارف بسبب العجز عن السداد، أدرك آخرون أنه من الأجدى لهم التخلي عن ملكية هذه المنازل للمصارف. وقاد انخفاض قيمة العقار إلى تراجع قيمة سندات الدين عليها وإلى انخفاض قيم المشتقات المالية المرتبطة بهذه الرهون. وتملأ قيم تلك المشتقات محافظ المصارف وخصوصاً الاستثمارية منها. واستثمر الكثير من المصارف والشركات الاستثمارية في هذه المشتقات طمعاً في رفع مستويات العوائد وجذب المزيد من الموارد وكذلك رفع رواتب رؤسائها ومديريها. وكشفت الأزمة عن تلقي رؤساء الكثير من المؤسسات المالية رواتب فلكية وتقاضوا مبالغ ضخمة، فقد تلقى رئيس بنك ليمان بروذرز المنهار 450 مليون دولار كرواتب وحوافز ومكافآت خلال أربع سنوات، أي بمعدل مقداره 9.4 مليون دولار في الشهر أو نحو 35 مليون ريال في الشهر.
وقد تجاهلت الحكومة الأمريكية وجود أزمة في البداية وذلك في محاولة يائسة لنشر الاطمئنان في الأسواق والحد من الذعر في الأسواق المالية والمصرفية التي يتصف الفاعلون فيها عادة بالجبن خوفاً من الخسائر. ويعتمد النظام المالي والمصرفي بالذات على ثقة المودعين والمقرضين بقدرة المصارف على توفير أموالهم في أي وقت يحتاجون إليه. وهذه الثقة مطلب أساسي في ضمان استمرار أي مصرف وأكبر مخاطرة يواجهها أي مصرف هو فقدان المودعين ثقتهم بقدرة المصرف على الوفاء بالتزاماته.
وقد عززت ضخامة الاقتصاد الأمريكي وتطور أسواقه المالية والتطور التقني والعولمة وانفتاح الأسواق من انتشار آثار الأزمة المالية التي يشهدها حول العالم. وأدى تكتم المصارف التي توجد بها أصول ملوثة بالرهن العقاري الأمريكي والمشتقات المالية المرتبطة إلى انخفاض الثقة بين المصارف التجارية. وقاد انخفاض الثقة بين المصارف إلى رفع مخاطر إقراض البنوك بعضها لبعض. وبهذا ارتفعت معدلات تكاليف إقراض المصارف وانخفضت مستويات السيولة المتوافرة لدى المصارف. والأهم من ذلك هو أن انخفاض مستويات السيولة أدى إلى تراجع مستويات الإقراض للقطاعات الحقيقية (الإنتاجية والاستهلاكية) في الاقتصاد ما سيقود إلى تراجع مستويات الاستهلاك والاستثمار وهو ما ينتج عنه تراجع مستويات الناتج المحلي الحقيقي وارتفاع معدلات البطالة. وإذا ما ارتفعت مستويات التراجع الاقتصادي وطالت فإن الولايات المتحدة ستشهد ركوداً اقتصاديا وتجر معها باقي العالم إلى تراجع اقتصادي تتوقف درجته على مستويات ارتباط تلك الدول بالاقتصاد والتجارة والاستثمار العالمي وخصوصاً الأمريكي.
إن الأزمة المالية في الولايات المتحدة تبرز مرةً أخرى فشل الأسواق في حل المعضلات الاقتصادية، وخصوصاً عندما يسيطر على الأسواق الجشع والاحتيال على الأنظمة والمضاربة أو على الأصح المقامرة. ويطالب أصوليو السوق والمستفيدون من أدائها في أوقات الرخاء الاقتصادي بتحرير الأسواق وابتعاد الحكومة عنها ليتسنى لهم تحقيق أعلى المكاسب. وبعد حدوث الكوارث المالية والاقتصادية يلجأون إلى الحكومة من أجل إنقاذ الأسواق بعدما تسبب جشعهم وتجاوزاتهم في إحداث دمار لهذه الأسواق. إن وضع ضوابط قانونية مناسبة لضمان العدالة في التبادلات الاقتصادية ومعاقبة المتلاعبين بالأسواق ومنع التغرير بعامة الناس في أوقات الازدهار الاقتصادي أسس ضرورية ومطلوبة لزرع الثقة بالأسواق وتفادي الأزمات الاقتصادية. كما تتحمل البنوك المركزية مسؤولية كبرى تجاه المساهمة في تكون فقاعات الأصول. وأعتقد أن الوقت قد حان لتعمل البنوك المركزية على استشراف فقاعات الأصول والتصدي لها قبل حدوثها بدلاً من العمل على محو آثارها المدمرة بعد حصولها

ليست هناك تعليقات: