السبت، 11 أكتوبر 2008

الجدار الأمريكي يترنح









د. مقبل صالح أحمد الذكير - 11/10/1429هـ
m_dukair@yahoo.com


تلطف أستاذنا الدكتور فيصل البشير وكيل وزارة التخطيط الأسبق بمهاتفتي أخيرا ليحثني على الكتابة عن أزمة المال الدولية، وتسليط الضوء على مدى تأثرنا أو تورطنا فيها. وقد أفاض متكرما في بيان وجهة نظره، وقاسمني الحديث متذكرا مختلف المواقف والقرارات التى شارك فيها ضمن لجان العمل الحكومي أثناء فترة عمله الطويلة. وهو يرى أن ظروف الزمن الراهن تستدعى الشفافية والمصارحة والمحاسبة، وضرورة انخلاع وزاراتنا ومؤسساتنا الحكومية من ثقافة التعتيم والتكتيم والتطمين والتصريحات التقليدية غير الدقيقة.
ولعل سعادته والقراء الكرام يذكرون أني نبهت من خلال مقالاتي خلال السنتين الماضيتين إلى ضرورة مراقبة الوضع المالي والاقتصادي الأمريكي ومتابعة تطوراته من كثب. فعلى الرغم من أن الاقتصاد الأمريكي ما زال الأكبر عالميا، إلا أن هناك مؤشرات متزايدة تدل على تراجع قوته النسبية ضمن مجمل حركة المال والتجارة الدولية لصالح قوى اقتصادية أخرى في أوروبا وشرق آسيا. واليوم نعاصر ترنح مؤسسات المال في شارع وول ستريت/ أو شارع الجدار، لتعلن بشكل واضح بداية تراجع الدور القيادي الأمريكي عالميا، تماما كما تراجعت القوة الاقتصادية للإمبراطورية البريطانية في النصف الأول من القرن العشرين. والمراجعة التي نحتاج إليها لا تعني التعديل الحاد، وإنما التغيير التدريجي الواقعي.
عندما كنا نتحدث عن ظهور إرهاصات على ضعف الاقتصاد الأمريكي، من واقع البيانات والإحصاءات، ونحذر من استمرار التعويل عليه والتعلق الكامل به أو رهن كل ما نملك بين يديه، كان البعض يقلل من أهمية هذه الملحوظات. واليوم عندما اتضحت الحقيقة وبدأ زعماء أوروبا والعالم يتحدثون صراحة ويدينون ما جرى ويطالبون بمحاسبة المسؤولين عن هذه الكارثة المالية الدولية، حينها فقط أصبح للكلام معنى وقوة, بل إن بعضهم كالرئيس الفرنسي أخذ يتساءل عن مدى صلاحية النظام المالي, بل النظام الرأسمالي برمته.
من الواضح أننا في بداية أزمة خطيرة وأن تداعياتها لم تنته. وحتى كتابة هذا المقال صباح الأربعاء الثامن من تشرين الأول (أكتوبر) الجاري كان آخر هذه التداعيات هو تبخر وضياع نحو تريليوني دولار من أموال معاشات التقاعد الأمريكية. وما التحركات الدولية الأخيرة التي تجري لعقد قمة لقادة الدول الصناعية الكبرى إلا دليل على عمق الأزمة وجدية المخاطر.
قبل أقل من سنة، أكد لي صديق سعودي يعمل في أحد البنوك الأوروبية التي فتحت لها فرعا أخيرا في بلادنا، أن الأزمة أخطر مما نظن وأن الأسوأ لم يأت بعد. وبعد فترة قليلة أخبرني أنه استقال من عمله لأن ضميره لم يسمح له أن يتحمل ضغوط مسؤولي البنك الوقحة التي تجبره على توريط عملاء البنك من مواطنيه السعوديين في عمليات خطيرة وخاسرة. لكن كم عدد المتورطين اليوم؟ وما حجم الخسائر؟ وهل هم فقط 35 شخصا كما ذكر موقع "العربية" الإخباري؟
إن ارتباطنا التاريخي بالاقتصاد الأمريكي وبعملته النقدية, الذي كان له ما يبرره في الماضي، يجعلنا اليوم أحوج ما نكون إلى مراقبة هذه التطورات ورصدها. وكلما رصدنا هذه التغيرات مبكرا، كنا أقدر على حماية اقتصادنا وتعديل سياساتنا وتوجيه أموالنا نحو الأصلح والأسلم والأبعد عن المخاطر العالية والخسائر الجسيمة المحتملة لهذه التحولات الاقتصادية.
وتنبيهنا المبكر من هذه المخاطر قام على أسباب اقتصادية موضوعية محضة، لا علاقة لها بسياسة الحكومة الأمريكية الحالية كما ظن البعض. فالولايات المتحدة ما فتئت تعاني استمرار اتساع العجز في ميزانها التجاري مع بقية دول العالم. فالأمريكان باتوا يستوردون أكثر مما يصدرون، ويستهلكون أكثر مما ينتجون، وينفقون أكثر مما يدخرون، ويقترضون فوق ما يستطيعون.
والحكومة الأمريكية اليوم هي أكبر مقترض ومدين في تاريخ البشرية. وبنوك أمريكا ومؤسساتها المالية غدرت بالعالم وباعت له ديونا شديدة الوهن بعد أن حصلت على عمولاتها مسبقا. وقد تم لها ذلك عن طريق إعادة تصكيك هذه الديون وتصنيفها زورا لتبدو ضمن فئات الصكوك متدنية المخاطر، بالتواطؤ مع شركات التأمين ومؤسسات التصنيف الأمريكية.
كما غدا في المسألة تعارض صارخ بين المصالح العامة ككل ومصالح كبار التنفيذيين من مديري مختلف المؤسسات المالية الأمريكية. فلغرض ضمان الحصول على المخصصات والمكافآت العالية التي تراوح بين 20 و70 مليون دولار سنويا للمدير الواحد، أمعن هؤلاء في تصميم عقود تحوط وائتمان ومشتقات مالية شديدة التعقيد خطيرة العواقب، ثم سوقوها في أرجاء العالم. كما أغرقوا مواطنيهم في ديون استهلاكية هائلة شجعت الناس على الإفراط في شراء الأجهزة الإلكترونية الحديثة والسيارات الفارهة ومختلف السلع المعمرة وغير المعمرة القادمة من اليابان, كوريا, الصين, والهند, ناهيك عن أوروبا. وإذا أضفنا إلى هذه الصورة، الخسائر الجسيمة (نحو 800 مليار دولار) التي تكبدتها الخزانة الأمريكية في حروب حكومة بوش وأعوانه من زمرة ما عرف بالمحافظين الجدد، عرفنا لماذا تدهور حال الدولار الأمريكي، فقوة ومكانة عملة بلد ما هي إلا انعكاس لمتانة وسلامة ومكانة الاقتصاد ذاته.
لهذه الأسباب ومن زاوية واقعية براغماتية دعوت منذ سنتين لتصحيح علاقتنا تدريجيا بالاقتصاد الأمريكي. سواء من حيث استمرار ارتباط عملتنا بالدولار، أو طريقة استثمار فوائضنا المالية واحتياطاتنا النقدية داخل المؤسسات المالية الأمريكية، حماية لمصالحنا وصونا لحقوق أبنائنا من الأجيال المقبلة فيها. نحتاج اليوم إلى المصارحة وتعلم قول الحقيقة، فالتعتيم السوفياتي منع اكتشاف الأخطاء وإصلاحها، فأورد اتحاده المهالك فزال، واستقلت أطرافه ولولا بقية قوة لزال حتى مركزه. وللحديث صلة

ليست هناك تعليقات: