الجمعة، 10 أكتوبر 2008

الأزمة الاقتصادية تؤشر لنظام جيوسياسي جديد




الأزمة المالية العالمية الحالية انطلقت من الغرب على خلاف أزمة العقد الماضي
(الفرنسية-أرشيف)

كتب فيليب ستيفنس مقالا في صحيفة فايننشال تايمز حول الأزمة الاقتصادية العالمية الحالية يرى فيه أن هذا الوضع يمثل لحظة تغيير جوهري في ملامح النظام الاقتصادي والسياسي في العالم.

وفي ما يلي النص الكامل للمقال:
إن اللوم يقع على المصرفيين الجشعين، وعلى قيادة ألن غرينسبان المتهورة للاحتياطي الفدرالي المركزي، وعلى ملاك البيوت العاجزين الذين اقترضوا مبالغ ليس باستطاعتهم أبدا تسديدها. واللوم يقع أيضا على الساسة والمشرعين في أي مكان لأنهم أغمضوا عيونهم على العاصفة الوشيكة.

كل المذكورين أعلاه مذنبون. أنا متأكد أن هناك مزيدا من الأشرار المتوارين. أحيانا الذين يكون مجديا معهم استعمال المنظار من الجهة الأخرى لرؤيتهم.

إن حطام النظام المالي يعرض مرآة للميزان الجيوسياسي المتغير ويحمل نصيحة وتحذيرا لما يجدر بالغرب فعله بالنظام العالمي الناشئ.

إلى عهد قريب كان الحديث منصبا حول حقارة الرأسمالية الأميركية المبنية على سياسة عدم التدخل. والخطة الأميركية للإنقاذ بكلفة سبعمائة مليار دولار هي ثمن تلك الغطرسة.

لأسباب لا أعرفها هناك بعض الساسة الأوروبيين يبدون مبتهجين إزاء متاعب حليف لا يزال يضمن أمنهم. لكن ذلك الإحساس لن يعمر طويلا.

فألمانيا كانت من بين الدول الأوروبية التي اضطرت لدعم مصارفها. والمستشارة أنجيلا ميركل أجبرت على تقديم ضمانات علنية للناخبين الألمان بأن مدخراتهم آمنة.

كما أن بلجيكا وهولندا أنقذت مجموعة فورتيس بينما أصدرت أيرلندا واليونان ضمانات لأصحاب الودائع البنكية واتخذت بلدان أخرى تدابير مماثلة. وبشكل أكثر درامية أقدمت الحكومة البريطانية بقيادة غوردون براون على تأميم جزئي لكبرى المصارف في محاولة يائسة لمواجهة الأزمة.

البعض يعتبر ألن غرينسبان من المسؤولين عن الأزمة الاقتصادية الحالية
(رويترز-أرشيف)
تداعيات عالمية
إذا كانت أزمة الرهن العقاري والقروض التي هزت النظام المالي العالمي تحمل بصمة أميركية فإن المصارف الأوروبية تصرفت مثل مشترين متلهفين. وهكذا فإنه محل الحقارة الأميركية يجب أن تحل حقارة الغرب.

وكما لاحظنا في الأسواق هذا الأسبوع فإن آسيا ليست بمنأى عن هذه الصدمات. فاليابان، التي خرجت مؤخرا من انحطاط طويل جراء انهيار قطاعها المصرفي في التسعينيات، تأثرت بالعاصفة العالمية الجديدة.

والصين وجدت نفسها مضطرة هذا الأسبوع لتخفيض نسبة الفائدة على غرار البنوك المركزية الغربية. وهذا ما قامت به دول آسيوية صغرى. والركود الذي تعرفه الولايات المتحدة وأوروبا سيبطئ نمو الاقتصادات الآسيوية الصاعدة.

وبالرجوع إلى الوراء هناك أمران يشيران إلى أن هذه الأزمة فريدة. الأمر الأول يكمن في ضراوتها الشديدة. لا أعرف مدى جدوى إجراء مقارنة مع حقبة الثلاثينيات. فالتاريخ لا يمتد أبدا على خط مستقيم.

لكن البديهي هو أن الحكومات والبنوك المركزية ليست لها تجارب سابقة في التعاطي مع صدمات وضغوط لها نفس الشدة والامتداد الذين عشناهما العام الماضي.

الأمر الثاني يتعلق بالبعد الجغرافي. لأول مرة يوجد مركز الأزمة في الغرب. فالبنسبة لواشنطن، ولندن أو باريس فإن الأزمات المالية كانت أمورا تحدث للآخرين، لأميركا اللاتينية، لآسيا، لروسيا.

وموجات الصدمة كانت ترتطم بسواحل البلدان الغربية على شكل مطالب بأن تنقذ الدول الغنية مصارفها الطائشة. وقد رسمت تلك الأزمات خطا بين الشمال والجنوب، بين الدول المصنعة والأخرى السائرة في طريق النمو. والبلدان الصاعدة وجدت نفسها في ورطة والغرب يطلب منها بشكل صارم التحرك للخروج منها.

في ظل تلك الأوضاع بدأت التعليمات تصدر بإجماع في واشنطن: الوصفات المؤلمة، بما فيها تحرير الأسواق والاندماج الضريبي، تفرض بمثابة ثمن للدعم المالي من صندوق النقد الدولي.

لكن الأزمة هذه المرة انطلقت من وول ستريت على خلفية الهبوط الحاد لأثمنة العقارات في الولايات المتحدة. والدول الصاعدة كانت ضحية وليس مجرما. ما سبب هذا الانعكاس في الأدوار؟

قبل عقد وبعد أزمة 1997 و1998 التي ضربت بعض اقتصاداتها النشيطة قالت آسيا إن هذا لن يحدث أبدا في المستقبل، لكن مع الأزمة الحالية لن يكون هناك مجال لمزيد من التساهل. ولتقادي قوانين صندوق النقد الدولي المدمرة تطور الحكومات دفاعات خاصة بها بتكديس الاحتياطات من العملة الأجنبية.

هذه الاحتياطات -التي تقدر قيمتها حاليا بأربعة آلاف مليار دولار- مولت القروض في الولايات المتحدة وأوروبا. كانت هناك مصادر أخرى للسيولة المالية خاصة التي يوفرها الاحتياطي الأميركي ومدخرات منتجي الطاقة. كما تطلب الأمر حيلة مالية بتحويل رهون عقارية إلى سندات مالية مدعومة حكوميا ولا تنطوي على مجازفة كبيرة.

لكن مسؤولا صينيا قال لزميلي في الفايننشال تايمز، ديفد بيلنغ "إن الولايات المتحدة أغرقت نفسها بالسيولة المالية الآسيوية".

الاعتراف بالتداعيات الجيوسياسية لا يقل إيلاما للبلدان الغنية عما ستدفعه محليا ثمنا لسياسات التبذير.

إن تآكل السلطة المعنوية للغرب الذي بدأ مع حرب العراق ازداد بشكل كبير. لم يعد بإمكان مديني الغرب أن يتوقعوا من دائنيهم الاستماع لتوجيهاتهم. وهنا يكمن الدرس الكبير.

"
فيليب ستيفنس: عندما يتحدث الدبلوماسيون الأوروبيون والأميركيون عن شراكة مسؤولة مع القوى الصاعدة فإن ما يعنوه حقا هو أنه لا يجب السماح للصين والهند وباقي الدول الأخرى بتحدي القواعد والمعايير الموجودة
"
شراكة مسؤولة
أصبح تحول القوة الاقتصادية العالمية نحو الشرق شيئا مألوفا في الخطاب السياسي. الجميع في الغرب يتحدثون برعب عن سرعة النمو في الصين وعن بروز الهند كلاعب جيوسياسي، وعن الأدوار المتزايدة للبرازيل وجنوب أفريقيا في العلاقات الدولية.

ولا يزال على البلدان الغنية أن تواجه تداعيات هذه التطورات. بإمكانها التفكير في اقتسام السلطة، لكنها تفترض أن المقايضة ستتم وفقا لشروطها، أي أن البلدان الصاعدة سيتم امتصاصها -بالسرعة التي يختارها الغرب- في المنتديات والمؤسسات الدولية المعهودة.

عندما يتحدث الدبلوماسيون الأوروبيون والأميركيون عن شراكة مسؤولة مع القوى الصاعدة فإن ما يعنوه حقا هو أنه لا يجب السماح للصين والهند وباقي الدول الأخرى بتحدي القواعد والمعايير الموجودة.

هذا هو الإطار الذي بموجبه لا تزال دول البنيلوكس (بلجيكا وهولندا ولوكسمبورغ) تفوق الصين من حيث الأصوات في صندوق النقد الدولي الذي تقول الدول الصناعية السبع إنه لا يزال المنتدى المناسب لإعادة رسم النظام المالي العالمي.

ليس لدي موانع في نشر قيم الغرب من قبيل فضائل سيادة القانون والتعددية السياسية وحقوق الإنسان الأساسية. كما لا أمانع في الدفاع عن كون نظام السوق الحر يبقى بالنسبة لكل العواصف المالية هو الخيار الأسوأ مقارنة مع القيم الأخرى.

لم يكن بالإمكان طرح قضية القواعد الكونية -المتمثلة في حاجة الأسواق المفتوحة إلى إدارة متعددة الأطراف- بحدة أكبر مما تستدعيه الأزمة الحالية.

الدرس الكبير هو أنه لا يمكن للغرب أن يواصل الاعتقاد بأن النظام العالمي سيعاد تشكيله بالشكل الذي يريده. طيلة أكثر من قرنين مارست الولايات المتحدة وأوروبا هيمنة اقتصادية وسياسية وثقافية هينة. إن ذلك العهد في طريقه للأفول.

ليست هناك تعليقات: