الخميس، 28 أغسطس 2008

تعثر الولايات المتحدة أمام حلف شمال الأطلسي!

كان يفترض على وزيرة خارجية الولايات المتحدة كوندوليزا رايس إلمامها العميق بالملف الروسي وأغواره، كونها اختصاصية في هذا المجال، ومع ذلك نستغرب من تصريحاتها وأقوالها قبل انتقالها إلى عاصمة جورجيا تبليسي وبعدها، عندما أعلنت في بيان لها أن منظمة حلف شمال الأطلسي، سوف تهزم الأهداف الروسية في جورجيا، وسوف تنتصر!

وأعلنت رايس بجرأة، أن روسيا "أصبحت أكثر فأكثر ـ في نظر العالم ـ خارجة عن القانون"، مشيرة إلى الهجوم الروسي على جورجيا.. وأضافت: "إن الكرملين يعتزم خنق جورجيا واقتصادها"، في إشارة منها إلى بقاء القوات الروسية في أماكن حساسة في جورجيا، وعدم مغادرتها، كما وعدت بذلك الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، والرأي العام الدولي.

ومع ذلك، وفي مؤتمر القمة الطارئة لمنظمة حلف شمال الأطلسي في بروكسل، وافق وزراء خارجية الدول الأوروبية على تعليق إجراء اتصالات رسمية مع موسكو حتى تسحب قواتها من جورجيا، غير أن موسكو، رفضت الخضوع للضغوط الأمريكية بفرض العقوبات الشديدة عليها. وفي بيان موقع من 26 عضو في حلف شمال الأطلسي، جاء فيه على الخصوص "ضرورة إعادة حلف شمال الأطلسي النظر في علاقاته مع روسيا، بعد الآثار السيئة المترتبة على الإجراءات التي اتخذتها روسيا في جورجيا".

والحقيقة، فإن روسيا ـ أخيرا ـ رسمت خطا في الرمال المتحركة في القوقاز عموما وجنوبه خصوصا، لصالحها، وفرضت رؤيتها ـ الخاصة ـ في اللعبة الدولية التي كانت تقودها الولايات المتحدة الأمريكية.

ويرى أحد المحللين المختصين في السياسات الدفاعية الأوروبية، أن الحماسة "الشديدة" التي تبديها واشنطن في الصراع الحالي بين روسيا وجورجيا، هدفه "الحقيقي" أو "من ورائه"، زعزعة استقرار أوروبا.

عمليا، تفعل واشنطن كل ما في وسعها لتأجيج النار المستعيرة في أوروبا، وتخويف الدول الأوروبية المستقلة، التي كانت في وقت ما تشكل ما كان يصطلح عليه بإمبراطورية الشر، الاتحاد السوفيتي، ومحاولة توريط حلف شمال الأطلسي في القوقاز، وما يمثله من ثروة إستراتيجية لا مثيل لها (النفط والغاز والثروات الباطنية والمياه).

الوزيرة الأمريكية، كونداليزا رايس، أطلقت النار على السياسيين المترددين في أوروبا من التورط في أتون الحرب مع روسيا نيابة عن الولايات المتحدة، وقد استعملت وابلا من الألفاظ الحادة، منذ اندلاع الأعمال العدائية بين روسيا وجورجيا في 7-8 أغسطس.

وفي السياق نفسه، شبه الرئيس الجورجي ميخائيل ساكاشفيلي الروس بـ"البربر"، وكان من المفترض على المحامي السابق في نيويورك (ميخائيل ساكاشفيلي) أن يستفيد من دروس الجغرافية السياسية العالمية قبل اتخاذ القرار الأحمق بمواجهة الآلة العسكرية الروسية.

وفي هذا الإطار، هناك أربعة أسباب مترابطة في الأزمة "القوقازية" الحالية، رغم ما قيل عنها في العلن أو في الكواليس:

1 — التأكيد على وحدة وسلامة التراب الجورجي، وعدم اعتراف النظام الجورجي باستقلال أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا ذات الأغلبية الروسية.

2 - توسيع حلف شمال الأطلسي إلى دول أوروبا المستقلة، كما وعدت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركيل مؤخرا جورجيا.

3 — استمرار الخطة الأمريكية التي تم التوقيع عليها مؤخرا في بولندا لإقامة محطة مضادة لمنظومة الصواريخ في أوروبا الشرقية، التي لها القدرة على ضرب المجال الأمني الحيوي لروسيا.

4 — والأهمية الجغرافية-الاقتصادية لأمن الطاقة، وما يمثله من تحديات كبرى.

ما حدث في المنطقة القوقازية، من خلال التدخل العسكري الروسي، قلب كل المعادلات والحسابات التي كانت سائدة قبل الانزلاق الأخير.. فقد دخل الآن في حساب الدول العظمى التفاصيل الدقيقة المتصلة بالأمن والطاقة، وذلك في ضوء اعتماد أوروبا "شبه الكلي" على مصادر الطاقة القادمة من روسيا، حيث ستكون الأزمة بالتأكيد لها تأثيرها المباشر على المستقبل السياسي لخط الأنابيب المقرر إنشاؤه في أوروبا.

من جانب آخر، وبدلا من تحديد حسابات الواقعية السياسية والأمنية والاقتصادية التي هي أيضا مدخل رئيسي في الربح والخسارة، أبانت روسيا عن غضبها من التدخلات الأمريكية السافرة في شؤونها الداخلية، ومحاولة حلف شمال الأطلسي "استفزاز" روسيا في "منطقتها" من خلال الاقتراب من مجالها الحيوي الذي يمتد من أقاصي الصين إلى غاية حدود إيران وصولا إلى تركيا والدول الأوروبية المستقلة.

وتسعى الولايات المتحدة الآن، إلى زيادة مؤشر انعدام الأمن في روسيا عبر تدخلات أكثر عدوانية من طرف قوات حلف شمال الأطلسي، التي وجدت الفرصة المواتية للعب أدوار في المنطقة وما وراءها وبسط نفوذها. وقد استفادت الولايات المتحدة من مخاوف أوكرانيا والدول الأخرى المجاورة من الهيمنة والتوسع الروسي، بعد أن أصبحت جورجيا حديث وسائل الأعلام العامة والخاصة في الأيام القليلة الماضية.

ردود الأفعال العدوانية للولايات المتحدة ضد تردد الأوروبيين والحلف في اتخاذ القرار المناسب لوقف الاعتداء الروسي على جورجيا، لم يكن متلائما أو متوافقا أو متزامنا مع احتياجات ومصالح أوروبا في الوقت الحالي، خاصة في مجال الطاقة، إذ ترفض موسكو بشدة تجاهل أمريكا وبريطانيا "العمدي" لأمنها القومي المشروع، وهواجسها بسبب الدرع الصاروخي في أوروبا، في حين تقف باريس وبرلين في الاتجاه المعاكس لواشنطن، فهما كانا أكثر حذرا في تناول الأزمة ومحاولة معالجتها بعيدا عن كل تشنج أو تصعيد، مع الأخذ بعين الاعتبار آراء ووجهات النظر الروسية. وقد اتفق المحللون على أن تصدعا جديدا وقع فعلا بين الولايات المتحدة وبعض حلفائها الأوروبيين من أعضاء حلف شمال الأطلسي.

ومن جانبه، لم يوفر الاتحاد الأوروبي إطارا ملائما للشراكة الإستراتيجية مع روسيا، وتجلى ذلك في عدم قدرته على توفير اتفاق جديد للتعاون مع موسكو، الذي أصبح هو نفسه ـ أيضا ـ مصدرا للأزمة الراهنة.

ولكن، روسيا كانت دائما تحافظ على علاقاتها الجيدة مع الاتحاد الأوروبي بوصفها ركيزة أساسية في سياستها الخارجية، فالاتحاد الأوروبي اليوم، لا خيار له إلا إعادة طرح أمنه وفق حسابات التفاضل والتكامل الجزئي، عبر التفاهم مع روسيا، بعيدا عن ضغوطات الولايات المتحدة الأمريكية.

أما بالنسبة إلى جيران روسيا مثل جورجيا وأوكرانيا، فهي ما زالت تأمل في الانضمام إلى منظمة حلف شمال الأطلسي، طلبا لحمايتها، كما أن الحرب في جورجيا وحد من مخاوف الدول الأوروبية المستقلة، التي لم تكن على استعداد لتقبل أسوأ النتائج، وهو التهديد بالاجتياح.

وفيما يتعلق بالصين، التي اقتصرت على دراسة رد الفعل على التطورات السريعة في منطقة القوقاز الجنوبية، فإن بكين تعاطفت مع روسيا في أزمتها مع جورجيا، وقد نددت ـ منذ فترة ولا زالت ـ بمحاولات الهيمنة الأمريكية الأحادية على العالم، وتوسيع حلف شمال الأطلسي على باقي الدول الأوروبية المستقلة التي لم تنضم إليه بعد، ونتج عن هذا خلافات حادة حول التكتيكات والإستراتيجيات الفرعية الواجب اتباعها.

وفي كلمة واحدة، قد نشهد توطيد أوثق في العلاقات بين روسيا والصين عن طريق التعاون الأمني في منظمة شنغهاي للتعاون، وهذا في المستقبل القريب، نظرا للتهديدات التي يمثلها القطبان العالميان، الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي.

وبالنظر إلى الأضرار الكبيرة في العلاقات بين الولايات المتحدة وروسيا، نتيجة لهذه الأزمة التي عصفت بجنوب القوقاز، فإن حقبة جديدة من العلاقات (الجليدية) قد تعيد إلى الأذهان مسلسل الحرب الباردة بينهما، وأن الإدارة التي سوف تفرزها الانتخابات الأمريكية المقبلة في نوفمبر، بغض النظر عمن سيفوز بها من الحزبين الديمقراطي أو الجمهوري، ستؤسس لهذه المرحلة الجديدة عمليا في سياساتها وأدبياتها وتحركاتها.

الموقف الجمهوري حيال الأزمة الروسية - الجورجية كان مختلفا عن موقف الحزب الديمقراطي، فالمرشح الجمهوري جون ماكين، استغل ـ بطريقته ـ ما يدور في المنطقة القوقازية، من قتال وسجال وصراع، للدفع بالناخبين الأمريكيين من أجل المطالبة بالمزيد من تشديد الأمن الوطني.

كما أن الأزمة هي أيضا محك اختبار لـ"القوة الذكية" للسياسة الأمريكية في كيفية التعامل معها ومع غيرها، في حالة إيران مثلا، وأنه ليس من الحكمة في شيء، تحميل روسيا لوحدها تبعات العدوان، واعتبار المبادرة العسكرية الروسية في جورجيا تهدد مصالح الأمن القومي الأمريكي.

هذه الرؤية الضيقة للشؤون العالمية، خاصة عند حدوث الأزمات، من المؤكد أنها وصفة لكوارث مقبلة، وربما الأمل الرئاسي قد يأتي من السيناتور الديمقراطي باراك اوباما، صاحب شعار "التغيير"، الذي يرى أن عودة العلاقات الروسية — الأمريكية إلى طبيعتها ستكون المسار الصحيح للسياسة الخارجية الأمريكية في السنوات المقبلة.

وكيف يمكن له أن يحقق هذه السياسة؟ يمكن أن يحقق ذلك عبر التراجع عن تعهد جورج بوش الأب لروسيا بتوسيع منظمة حلف شمال الأطلسي، على حساب مصالح موسكو الإستراتيجية والأمنية

ليست هناك تعليقات: