الاثنين، 1 سبتمبر 2008

مستقبل العلاقات الروسية-الأميركية ونتائجه على الشرق الأوسط

يترقب العالم بحذر وقلق ما قد تؤول إليه العلاقات بين روسيا والغرب، التي بلغت في الفترة الحالية مستويات غير مسبوقة من التوتر، لا تقتصر على الجانب السياسي، بل وظهر فيها عنصر القوة العسكرية بصورة مباشرة، من خلال جر الولايات المتحدة والناتو مزيد من القطع البحرية إلى البحر الأسود منطقة انتشار ونفوذ الأسطول الروسي. وللتذكير نشير إلى أن فتيل هذه الأزمة اشتعل على خلفية العدوان الذي قامت به جورجيا ضد أوسيتيا الجنوبية، بدعم عسكري (تقني وفني) من الولايات المتحدة وإسرائيل. هذا العدوان كان، على ما يبدو، آخر نقطة في كأس الصبر الروسي، ما دفع موسكو إلى اتخاذ قرار حاسم بإرسال القوات الروسية إلى أوسيتيا الجنوبية لطرد القوات الجورجية منها.

وفي خطوة رد لاحقة قررت روسيا الاعتراف باستقلال أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا، الأمر الذي أثار ردود أفعال غربية، بلغت عند البعض التلويح باتخاذ قرار عقوبات اقتصادية بحق روسيا، بينما عمدت الولايات المتحدة إلى زيادة عدد المدمرات وغيرها من قطع بحرية على الشواطئ الجورجية وفي البحر الأسود بشكل عام. هذا المشهد يضع العالم أمام احتمالين لتطور الأزمة: إما أن تنشب مواجهة عسكرية، سرعان ما تتوقف لتبدأ بعدها عملية إعادة بناء نظام العلاقات الدولية، أو أن تبدأ عملية إعادة بناء نظام العلاقات الدولية دون أية حروب. في كلا الاحتمالين ستنتهي الأمور بعملية إعادة بناء طبيعة العلاقات الدولية، فأي من الدربين سيختار "العالم الحر"؟ التطورات المقبلة رهن بالقرارات الغربية، أما روسيا فهي تقوم بما يتناسب مع حفاظها على مصالحها الإستراتيجية وأمنها القومي.

إن نشوب مواجهة عسكرية بين روسيا والغرب هو احتمال مستبعد جداً، لكن تزايد عدد القطع الحربية المنتشرة في البحر الأسود يبقي هذا الاحتمال قائماً، فالبحر الأسود ليس محيطاً، وزيادة عدد القطع البحرية الأميركية على مقربة من الأسطول الروسي في المنطقة يزيد من خطورة نشوب مواجهة، قد تبدأ حتى دون قرار سياسي، إذ أن أي سوء تقدير من طرف لتحركات الطرف الآخر قد يسبب الطلقة الأولى لحرب لن تتسع رقعهتا، حسب التقديرات، لأن اتساعها سيعني اقتراب الأطراف من حرب دمار شامل، وهذا ما تتفاداه روسيا منذ سنوات من خلال دعواتها التي تجاهلها الغرب لإقامة شراكة حقيقية. أما الغرب،وعلى الرغم من العدائية الواضحة تجاه روسيا في سياساته خلال السنوات الأخيرة، فهو لن يرغب بحرب سيخسر فيها الجميع.

لا شك بأن الغرب سيفكر مليون مرة قبل جر العالم إلى حرب بين قوى عالمية كبرى تمتلك كل وأقوى أنواع أسلحة الدمار الشامل، ولعل لهجة التصريحات السياسية الأوروبية، التي بدأت تنخفض حدتها نحو روسيا في الأيام الأخيرة تدل على أن الدول الأوربية تدرك خطورة الموقف وتحاول تهدئة الأوضاع لتفادي المواجهة المدمرة عالمياً، وحصر احتمالات البحث عن حل لأزمة العلاقات بينها وبين روسيا في الحوار السياسي، الذي يسمح باستخدام أدوات مختلفة باستثناء الآلة العسكرية المدمرة، لكن مع الحفاظ عليها كأداة ضغط خلال المحادثات مع روسيا.

الاحتمال الآخر لحل أزمة العلاقات بين روسيا والغرب هو اعتماد الحوار بديلاً عن العنف والقوة والتهديد والوعيد. وهنا نكتشف عثرات كثيرة على درب هذا الحوار. إذ أن روسيا منفتحة على حوار مع الغرب منذ نيل سيادتها في مطلع التسعينات، وسعت إلى إقامة شراكة معه، وصولاً إلى تكامل روسيا مع الأسرة الأوربية. إلا أن الغرب لم يتقبل روسيا شريكاً، الأمر الذي شكل بداية الأزمة الحالية، لاسيما أن عجز الغرب عن فهم روسيا، ورفضه احترام مواقفها وأخذ وجهات نظرها بالحسبان، جعل الأمور تزداد تعقيداً. وفي كيفية تعامل الغرب مع موقف روسيا من العدوان الجورجي على أوسيتيا الجنوبية ما يضحك: يصف الغرب دفاع روسيا عن المدنيين بأنه عدوان، واعتراف موسكو باستقلال أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا بأنه خرق للشرعية الدولية. هل نسي الناتو كوسوفو؟ لماذا يسمحون لأنفسهم القيام بما يمنعون الآخرين عنه؟ هذا هو جوهر المشكلة والأزمة في العلاقات، وليس بين روسيا والغرب فقط، بل في مجمل منظومة العلاقات الدولية. وإذا استمر الوضع على حاله فإن العالم مهدد بالمزيد من العنف والدمار.

بأي حال نعود إلى انعكاسات الحلول المحتملة للأزمة بين روسيا والغرب على الملفات الساخنة في الشرق الأوسط. في هذا السياق هناك نتيجة واضحة اليوم مفادها أن آلية تدخل وتعامل روسيا مع السياسة الجورجية، المدعومة من الغرب، في أوسيتيا الجنوبية، شكلت فاتحة لمرحلة جديدة يُتوقع أن تنتج بدء إعادة بناء النظام الدولي على أسس جديدة أكثر عدلاً من السائدة منذ تفكك الاتحاد السوفييتي وحتى اليوم. ففي حال نشبت مواجهة مسلحة بين روسيا والولايات المتحدة، لا يُتوقع أن تسارع روسيا إلى تسليح الحلفاء والأصدقاء بشتى أنواع الأسلحة، هذا لأن المواجهة - أكرر في حال نشبت وهي مستبعدة- لن تتسع لأسباب عدة أهمها: المسؤولية التي تتعامل فيها روسيا خلال تعبيرها عن ردة فعلها، فهي ترد بما يحافظ على كرامتها، لكن لا تنجر ولا تسمح بأن تُورط فيما هو أبعد من ذلك. والسبب الثاني هو أن الرأي العام العالمي سيمارس ضغطاً سريعاً على الأطراف كافة لضبط النفس والعودة إلى الطرق الدبلوماسية لحل الأزمة. باختصار إن روسيا، أغلب الظن، لن تعمد أو تسارع إلى اتخاذ خطوات إضافية في سياق ردها على السياسات الأميركية، خلال هذه المرحلة من االأزمة على أقل تقدير.

أما إذا قرر الناتو والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي التعامل هذه المرة بموضوعية وعقلانية مع التوتر الحاصل في علاقاتها مع روسيا، فإن هذه الأطراف ستتجه نحو محادثات لن تقتصر على الحرب في أوسيتيا الجنوبية واعتراف روسيا باستقلال أبخازيا أوسيتيا، بل ستكون محادثات جذرية يتم خلالها إعادة النظر بالنظام الدولي السائد منذ انهيار الاتحاد السوفييتي، والبحث عن آليات بديلة جديدة تضمن، على أقل تقدير، وضع أسس مختلفة لطبيعة العلاقات الدولية، وهذه بداية الدرب الشاق والطويل والمعقد نحو بناء عالم متعدد الأقطاب. وفي حال جرت الأمور على هذا النحو فإن أزمة الصراع العربي-الإسرائيلي، ستكون محوراً رئيسياً لتقييم النظام الدولي الحالي، ووضع أسس لنظام دولي جديد، متوازن، لا مكان فيه لهيمنة طرف أو وجهة نظر واحدة على الحل. خلاصة القول إن تسوية النزاع العربي -الإسرائيلي، وتخفيف حدة التوتر بشأن ملفات شرق أوسطية أخرى يتطلب نظام علاقات دولية أكثر عدلاً وأكثر قدرة على تفهم مواقف ووجهات نظر مختلف الأطراف. جاءت أزمة أوسيتيا الجنوبية، التي فجرت التراكمات الأزماتية الكامنة منذ قرابة العقدين في العلاقات بين روسيا والغرب، وخلقت أملا جديدا ببناء عالم عادل أكثر قدرة على إيجاد تسوية لأزمة الشرق الأوسط.

بوادر الأمل يمكن تلمسها في تغيير بعض القادة الأوربيين للهجة تصريحاتهم نحو روسيا. أما الأهم فإن تغير طبيعة العلاقات الدولية سيكون سريعاً في حال حدث انقلاب جذري في سياسات الولايات المتحدة. وإذا اعتبر البعض أن التوتر في العلاقة بين موسكو وواشنطن يصب في خدمة الحملة الانتخابية لجون ماكين، أي لصالح ولاية رئاسية ثالثة لنهج بوش الابن، فإنه من الضروري أن ننظر إلى الجانب الآخر، حيث جاء هذا التوتر الذي صنعته إدارة بوش مع موسكو كرسالة للناخبين الأميركين، تخيرهم بين إدارة تريد توريط الولايات المتحدة والعالم بمستنقعات أخرى وتستخدم الحروب والقتل لأغراض انتخابية، وإدارة تتعهد بالعمل على إخراج البلاد من المستنقعات التي غرقت بها في عهد بوش، وتحسن سمعة وموقع الولايات المتحدة دولياً! لقد فعلت روسيا ما بوسعها ومارست ضبط النفس من موقع المسؤولية أمام العالم كله، وتبقى الكرة في ملعب الناتو والولايات المتحدة وأوروبا، هل استوعبوا الدرس وأدركوا أنه لا حياة على الأرض في ظل هيمنة طرف واحد على كل الأطراف الأخرى؟

ليست هناك تعليقات: